Available in: English   Arabic   Turkish   Go to media page

ما هذا بشراً إن هذا إلا ملكٌ كريم

سلطان الأولياء مولانا الشيخ محمد ناظم الحقاني

5 سبتمبر 2010 – رمضان 1431

(مولانا يقف).

لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله عليه صلاة الله وسلامه. ثم الصلاة والسلام عليك وعلى جميع الأنبياء والأولياء ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. يا رب ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، يا أكرم الأكرمين، أنت السلطان، أنت السبحان يا رب العالمين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. (مولانا يجلس).

ثم السلام على صاحب الزمان، ثم السلام على قطب الزمان، المسؤول عن كل شيء في هذه الدنيا الدنيئة.

السلام عليكم أيها المشاهدين! .. حاولوا أن تستمعوا وتصغوا وأن تتعلموا وتفهموا! .. فكل هذه من خصائص البشر. جلّ ما نتمناه أن ينعم علينا ربنا بالعطايا. وإلا فلن نتمكن من الاستماع والفهم أو أن نتعلم شيئاً.

ونقول، بسم الله الرحمن الرحيم، (مولانا يقف ثم يجلس). ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الفهم الصحيح وأن يهدينا ويوصلنا إلى العوالم النورانية.

أيها الناس! انتبهوا وحاولوا جهدكم يومياً أن ترتقوا إلى مقامات ربانية جديدة. كلنا لا نعرف شيئاً .. ما كان في الأمس قد مرّ، واليوم نأخذ ما قُسم لنا من نصيب في هذه الحياة الدنيا، تبعاً لمقاييس السماء. النملة تأخذ نصيبها وكذلك النحلة والعصفور. هناك يومياً دعوة وضيافة سماوية .. يرسل الله سبحانه وتعالى لكل الموجودات ما قُسم لهم من نصيب، من بحار نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى. بحار نعم الله، بحار باقية لا متناهية، تزداد ولا تنقص أبداً. كالمولود الجديد يأخذ في اليوم الأول من لبن أمه القليل وفي اليوم الثاني يأخذ أكثر، ثم يزداد أكثر فأكثر، وهذا المثل لكياننا المادي .. وأما عطاء الله سبحانه وتعالى فليس كلبن الأم الذي يغذي جسم الطفل وينميه .. فعطاء الله سبحانه وتعالى في تزايد مستمر. وكما أن الأم يسُرّها أن ترى طفلها يأكل ويشرب ويكبر، فإن رب السموات يسرّه أكثر أن يرى عبده يسأله من نعمه وعطاياه.

النعم المادية أو الأرضية ليست ذات قيمة لتطلبها. فالله سبحانه وتعالى يحب أن تسأل المزيد والمزيد من عطاياه ونعمه السماوية. فالنعم السماوية ليس لها نظير ولا يوازيها شيء من النعم الأرضية.

السلام عليكم أيها الحاضرين! أظن أنكم على الأقل، تفهمون ما أفهم. ولكن علماء السلفية يقولون، "نحن نفهم الكثير والكثير عن نعم الله سبحانه وتعالى" .. يسرنا ذلك؛ أن تزدادوا فهماً عن نعم الله تعالى يوماً عن يوم، ولكن الأهم من هذا أن تعرفوا المنعِم؛ صاحب العطاء، الذي رزقنا كل هذه النعم. ليس المهم أن تعرفوا أن تعدوا النعم المادية الجسدية التي أوتيتموها وإنما الأهم أن تتعرفوا على المنعِم؛ الله سبحانه وتعالى. فهذه النعم وسيلة للتعرف على المُنعِم .. لماذا أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بكل هذه النِّعم؟ .. لكي نعرف المُنعِم! .. لا تنظر إلى النِّعم بل انظر إلى المُنعِم!

أيها الناس! يمكنكم أن تجدوا كل شيء في القرآن الكريم. أخبروني يا علماء السلفية! ما سأقوله الآن ربما لم يخطر في بالكم ولم يخطر في بال أحد منذ مئات السنين، لأنه يأتي من فوق، وليس مني! .. كل ما يهم الناس من شؤونهم وما هو ضروري لهم قد بيّنها القرآن الكريم. فكل حرف من حروفه قدّم شيئاً للبشرية.

ففي الحديث الذي كنا بصدده عن نِعَم الله، فالمهم هو النظر إلى المنعِم وليس إلى النِّعم. لذلك كبار أولياء الله وأصحاب المقامات الربانية لا ينظرون إلى النِّعم وإنما ينظرون إلى المُنعِم. (مولانا يقف)، أستعيذ بالله:

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذاَ بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، (يوسف، 31).

القرآن الكريم يبيّن لنا كل شيء. أستعيذ بالله، عندما خرج سيدنا يوسف، بأمر من امرأة العزيز إلى سيدات مصر المكرمات ، وكانت قد دعتهن وأعدّت لهن متكئاً وأعطت كل واحدة منهن سكيناً حاداً في يدٍ وتفاحة في يدٍ أخرى، وبينما هن منشغلات بتقطيع التفاحة بالسكين، طلبت من سيدنا يوسف أن يخرج إليهن .. لقد نعتت امرأة العزيز سيدنا يوسف بالسيد أو السيد الرباني وليس بالعبد وقالت، "أخرج عليهن أيها السيد!" {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذاَ بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، (مولانا يجلس).

سبحان الله! كل شيء مذكور في القرآن الكريم. لا أحد يفكر أن هناك حلقة وصل بين تلك النقطة وبين نعم الله سبحانه وتعالى للناس. فمن كان منشغلاً بنعمه سبحانه وتعالى فهو والأنعام على سواء. فإنك إن وضعت أمام البهيمة تبناًً سينشغل بأكله ولن يتكلف بالنظر إلى صاحب التبن، وإنما سينصب كل همه في أكل ذلك التبن. تلك هي مرتبة البهائم. أما أولئك الذين يدركون شيئاً عن وجودهم الحقيقي، فإنهم إذا ما حصلوا فعلاً على شيء من العطايا، فإنهم يدركون حتماً من أين جاءت.

{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}. عندما خرج إليهن سيدنا يوسف عليه السلام؛ إلى تلك النسوة اللواتي كن يقطعن التفاحة ليأكلنها، غابت عقولهن من فرط الدهشة والحيرة في جمال وحسن وجهه، فبدلاً من تقطيع التفاحة بدأن بتقطيع أيديهن. "أَكْبَرْنَهُ"، أي استعظمن أن يرين وجهاً بمثل هذا الجمال، وشخصاً بمثل هذا البهاء والنور. لقد انكشفت لتلك النسوة ذاته المشرقة وظهرت لهن أنواره فقلن، {مَا هَذاَ بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} .. نسين الثمار التي بأيديهن وقلن، هذا ليس من البشر بل هو من الملائكة المكرمين .. فالبشر شأنهم واهتمامهم متعلق بكيانهم الجسدي. ولكن الله سبحانه وتعالى كشف عن تلك النسوة الحجاب وأطلعهن على شيء لم يدركه أحد من قبل. فلما دخل سيدنا يوسف عليه السلام عليهن قلن، {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذاَ بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}. وهناك قراءة بكسر اللام: "ملِك كريم". لقد أدركن مِن عند مَن جاء.

لقد فقدن الشعور بلذة كل ما تستطيبه النفس بأكلها من تفاح وعنب وغيره وانقلبت أمورهن وقلن، {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذاَ بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}! .. "إنه ليس بشرياً عادياً، بل ملك كريم مرسل من السماء .. وهو ليس من هذا العالم بل شيء آخر .. فقدنا الإحساس بكل ما أوتينا من نعم وعطايا .. وتركنا كل ملذات هذه الدنيا ونبذنا شهواتنا وخلفناها وراء ظهورنا .. وارتقينا درجة، فإذا نحن ننظر إليه ونقول، {إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، أو ملِكٌ كريم!"

ما رأيكم في هذا التفسير، يا علماء السلفية؟ .. أنتم تفهمون! .. أنظروا الفرق بين من همُّهم الجوانب المادية أو المتع الجسدية وانظروا إلى من تبدلت أحوالهم عن طريق الفتح الرباني. وكان سيدنا يوسف قد كُسيَ "بشيء" من السماء. لذلك قلن، {مَا هَذاَ بَشَراً}! .. "إنه ليس كالبشر كما كنا نسمع عنه! .. بل هو ملك كريم" ..

في تلك اللحظة فقدن الشعور بكل ما ذُقنَ من ملذات الحياة الدنيا وارتفعن عنها، واستحوذ عليهن ذلك المشهد، ولم يكن ليثير انتباههن غير ذلك، فقطعن أيديهن بدون أن يشعروا بذلك، وهن ينظرن إليه ويقلن، "هذا ليس بشراً من هذه الأرض، بل هو ملك كريم".

أيها العلماء! .. يمكنكم أن تجدوا كل شيء في القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يبين لنا هنا، بأن التجليات الربانية التي تتنزل على أهل الله يُفقد من كان في حضرتهم الشعور بالجوانب المادية والملذات الجسدية. فهذا ما حصل لأولئك النسوة التي قطعن أيديهن. حضور سيدنا يوسف عليه السلام أفقدهن الإحساس بالألم عندما قطعن أيديهن. ولو قطعن رؤوسهن ما كن ليشعرن بذلك. وهذه أدنى مرتبة يمكن للإنسان أن يدرك فيها درجات السعادة والمتع السماوية.

خلاصة الكلام؛ لا تشغل نفسك بالعطايا وإنما أشغلها بواهب العطايا. وليكن حرصك على عطاياه وعلى بحار جماله والمشاعر السماوية اللذيذة. حاول أن تفرّق بين العطايا السماوية والعطايا الأرضية!

لذلك، فالذين وُهبوا معرفة شيء عن العطايا الربانية، أصبحوا أنبياء! .. أما الباقي فهم على مستوى البهائم. فيأتي الأمر من السماء، "أعطوا تلك البهائم ما يفرحهم، وأعطوني هؤلاء الذين فرحهم وسعادتهم أن يكونوا معي .. الذين لا ينظرون ولا يتلذذون بالعطايا بل لذتهم وسعادتهم معي .. افتحوا لهم فتحاً مبيناً!

أين أنتم يا علماء السلفية، وكيف هو مستوى فهمكم للقرآن الكريم، حول مواضيع من هذا القبيل!؟ .. فالقرآن الكريم بحار .. وبحار .. وبحار .. وبما أننا نطلب ملذات هذه الحياة الدنيا فقد حُرم علينا تذوق اللذة الحقيقية للعطايا الربانية. وتلك العطايا تدلك على واهب العطايا.

أيها الناس! .. لا تركضوا لجمع الأشياء التي تجعلكم والبهائم سواسية. ارقوا بنفوسكم من مستوى البهائم إلى درجات أولياء الله الصالحين! ولهذا السبب يُرسل إليكم الأنبياء عليهم السلام. فالأنبياء يبشّرونكم بالعطايا الربانية ويدعونكم إليها. لذلك، كان الصحابة رضي الله عنهم يصومون ويفطرون على تمرة أو شق تمرة أو على كوب ماء أو على كوب حليب ومع ذلك كانوا سعداء. لأن اهتمامهم لم يكن منصَباًّ على الجوانب المادية، حتى تجلب لهم السعادة. وإنما مطلبهم التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. لذلك، كانت أرواحهم، عند الإفطار، تغرق في بحار رحمة الله .. وفي بحار السعادة الربانية. فهم لم يكونوا يكترثون بما يُستمتع به من الأشياء المادية، ولم يكن همهم الملذات الجسدية. وإنما كان مقصدهم أن تشعر أرواحهم عند الإفطار، بسعادة ولذة تأتي من عند ربهم.

أيها الناس! .. ويا علماء السلفية! أطلبوا من يفقه مثل هذه الأمور، أو كما قيل، "من ذاق عرف". فاسألوا عن الذي ذاق من العسل الرباني. وما سوى ذلك لا قيمة له .. عليكم أن تبحثوا عن رجل ذاق من العسل الرباني، لأن مثل هذا الشخص قد يجعلك تتذوق من عسل اللذة والسعادة الربانية.

لذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي:

"كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك"، (رواه مسلم وهذا لفظه، وروى نحوه أحمد والنسائي وابن ماجة).

خلاصة الكلام، أن الصائم عند إفطاره يجد لذة وفرحة، لا يعلمها أحد. من أراد اللذة الجسدية فله ذلك، ومن أراد اللذة السماوية، فهي شيء آخر لا مثيل له.

أيها الناس! خففوا من رغباتكم واهتماماتكم الدنيوية .. ويا علماء السلفية! أتركوا الاهتمام بمظاهركم الخارجية وحاولوا أن تكونوا من عباد الله المتواضعين، الذين يرضون بأي شيء يستر عورتهم. ليس همهم أن يفطروا بأطايب الطعام بعد الصيام ولا الاستمتاع الجسدي، فإن ذلك مرتبة الحيوان.

تعالوا واستمعوا! .. تعالوا وحاولوا أن تفهموا! .. فالقرآن الكريم فيه علم كل شيء. غفر الله لي ولكم بحرمة خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم، (مولانا يقف ثم يجلس).

الفاتحة.

(40 دقيقة و936 مشاهد) .. اليوم يوم عطلة .. على الناس أن يأتوا ليحضروا الدرس .. يريد الله أن يذيقنا من نعمه .. يا ربي شكر .. (يقوم مولانا بسجدة شكر) .. شكراً لك يا رب .. (مولانا يصلي ركعتي شكر). الفاتحة.

UA-984942-2